( قال الأعشى : خرجت أريد قيس بن معد يكرب بحضرموت ، فضللت في أوائل أرض اليمن ، لأني لم أكن سلكت ذلك الطريق قبل ، فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكانا ألجأ إليه فوقعت عيناي على خباء من شَعَرٍ، فقصدت نحوه، وإذا أنا بشيخ على باب الخباء.. سلمت عليه، فرد عليّ السلام ، وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت ، فحططت رحلي وجلست، فقال : من أنت ؟ وإلى أين تقصد ؟ قلت : أنا الأعشى ، أقصد قيس بن معد يكرب. فقال : حياك الله أظنك امتدحته بشعر ؟ قلت : نعم ، قال: فأنشدنيه ، فابتدأت مطلع القصيدة :
رحلتْ سمية غدوة أجمالها غضباً عليك فما تقول بدا لها؟
فلما أنشدته هذا المطلع قال : حسبك. أهذه القصيدة لك ؟ قلت : نعم قال : من سمية التي تنسب بها ؟ قلت : لا أعرفها، وإنما هو اسم ألقي في رُوعي، فنادى : ياسمية اخرجي ، وإذا جارية خماسية قد خرجت فوقفت وقالت : ما تريد يا أبتِ ؟ قال . أنشدي عمك قصيدتي التي مدحت بها قيس بن معد يكرب ، ونسبتُ بكِ في أولها، فاندفعت تنشد القصيـدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفاً، فلما أتمتها قال : انصرفي ، ثم قال : هل قلت شيئاً غير ذلك ؟ قلت : نعم ، كان بيني وبين ابن عم لي يقال له يزيد بن مسهر، ما يكون بين بني العم، فهجاني وهجوته فأفحمته . قال : ماذا قلت فيه ؟ قال : قلت :
ودّع هريرة إن الركب مرتحلُ وهل تطيق وداعاً أيها الرجلُ؟
فلما أنشدته البيت الأول ، قال : حسبك. من هريرة هذه التي نسبت بها ؟ قلت : لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها، فنادى: يا هريرة، فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجت، فقال: أنشدي عمك قصيدتي التي هجوت بها يزيد بن مسهر، فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً، فسُقِط في يدي وتحيّرت وتغشتني رعدة .
فلما رأى ما نزل بي قال : ليُفرخ رُوعك يا أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة ، الذي ألقى على لسانك الشعر .
قال الأعشى : فسكنت نفسي ورجعت إليّ، وسكن المطر، فدلّني على الطريق، وأراني سمت مقصدي، وقال: لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس ) .